الليلة الأخيرة | قصّة

 

"أنهيت عملي قبل قليل، وها أنا أجلس في إحدى الحدائق القريبة لأتحدّث إليك يا مؤنستي وراحتي". هكذا يجيب الزوج المغترب زوجته أثناء مكالمة فيديو بينهما. تسأله: ماذا يدور حولك؟ هل تستطيع أن تدير الهاتف؟ يحاول الزوج لكنّ هاتفه غير المتطوّر يعرض صورًا مشوّشة لا تقدر من خلالها زوجته أن تتبيّن تمامًا المكان حوله، فتقول له: "إذن صف لي المكان والأشخاص".

يبدأ الزوج حديثه: "أنا في حديقة مهيّئة للجلوس بمقاعد غير مريحة تمامًا، يوجد في منتصفها منطقة ألعاب للأطفال. الشوارع مضيئة، ولا حركة تلفت الانتباه من المركبات". تستوقفه الزوجة: والناس؟ يجيبها: أمامي عجوز يبدو أنّه متشرّد يغطّ في نوم عميق، فمنذ مجيئي لم أره يتقلّب أو يتململ في فراشه. وها هو شابّ يضع سماعات أذن يمرّ بجانبي، وفي المبنى المجاور على ما يبدو أنّ حفلة تقام، فالموسيقى صاخبة، وثمّة أصوات كثيرة متأكّد أنّها تزعج الحارة، فيسألها: هل تسمعين؟ لتردّ: كلّا، وتسكت بضع لحظات. ثمّ تقول له: اشتقت لك، وإنّني أنتظر حلول إجازتك القادمة بفارغ الصبر. يجيبها بالمثل، ويكمل: هل أنتم بحاجة لمزيد من المال؟ تجيبه بالنفي وأنّ الحال على ما يرام، وليس هنالك حاجة لإرهاق نفسه أكثر من ذلك.

يرسل لها قبلة في الهواء، فتردّ عليه بمثلها، فيبتسم ويقول خجلًا: أشعر الآن أنّني حيّ. يهمّ بالمغادرة، فيتفقّد مقعده إن ترك وراءه شيئًا، ثمّ يمسك هاتفه أمامه ويسير إلى بيته مودّعًا صحبة وجه زوجته له. قبل ذلك بثانية يرفع صوته: لقد تحرّك المتشرّد، خفت أن يكون ميتًا وأنّني بجانب جثّة طوال الوقت! فتضحك هي من الجانب الآخر.

تسأل صديقتها: كيف الطقس في الخارج؟ تجيبها: بارد، لقد حاولت الوقوف قبل نصف ساعة ولم أستطع. حتّى أنّ الحديقة خالية من الأطفال أو الجالسين. ليس في المكان إلّا المتشرّد ورجل آخر يحدّق بهاتفه المحمول طوال الوقت. يتحدّث صوت متقطّع: لماذا لا يذهبان إلى بيتيهما؟ إنّه يوم عطلة! يوم للاحتفال لا لتعذيب النفس في هذا البرد القارص. مَنْ يتحدّاني برمي هذه الزجاجة عليهما؟ يوقفه أصدقاؤه من حوله. يصرخ أحدهم: هل صوتنا عال؟ تجيبه فتاة بجانبه: على ما يبدو. وتكمل: انظروا لهذا الغريب، أشبه برجل آليّ. يوقفها آخر: ربّما هو ذاهب لتناول بعض البراغي. ويضحك الجميع.

واحد، اثنان، ثلاثة، خمسة، ستّة، ستّة عشر، ..، اثنان وثمانون. ينهي عدّ ما جمعه هذا اليوم، وقبّل الوعاء الّذي جمع فيه ما يتدلّل عليه المارّة. يقول هامسًا: هذا أقلّ من يوم أمس، يبدو أنّني لست محظوظًا عند زاوية الشارع الّتي كنت فيها اليوم، ولهذا سوف أغيرّ مكاني يوم غد. يتناول قطعة شوكولا كانت مخبّأة تحت وسادته، ويلتهمها بسرعة. يقلّب نفسه على جهته اليسرى، يغطّي رأسه بالكامل، ويشقّ غطاءه قليلًا ليراقب الغريب القادم إلى الحديقة. يتمتم: يبدو أنّه عائد من العمل. يا لتعاسته، يعمل ليكسب المال، أمّا أنا فأظلّ مستلقيًا وأكسب مثله أو أكثر. يا لحظّه، إنّه يتحدّث مع أحد ما في هاتفه. يا لتعاسته، إنّه بعيد عن شخصه. يا لحظّه، إنّه يضحك.

ثمّ يلتفت إلى المبنى المجاور. ويتمتم مرّة أخرى: ليتني معهم، أو لو يتشاجر اثنان منهم فترمى بعض الملابس. لا يتساقط من الأعلى ما يرغبه الأسفلون. يتخيّل بعدها انهيار المبنى بأكمله عليه، ثمّ يضحك. يتمتم: هذه ستكون حكاية أقلّ سوداويّة ممّا عشته في معظم حكاياتي. يرفع وجهه أكثر حتّى يكشف مرور شابّ يلبس معطفًا أسودًا. يتمتم: يا لتعاستك، فإنّه لا يسمع الموسيقى إلّا الوحيدين أو المشتاقين. ينظر نحو الأعلى مرّة أخرى: يا لحظّكم، تملكون بيتًا يأويكم. يمرّر يده على قدمه، ويطوي بنطاله قليلًا، ثمّ يحكّ بأظافره الطويلة مدّة لم ينتبه خلالها لمغادرة الغريب.

من خلف ستارة، تحدّق امرأة عجوز إلى المشهد والمارّة منذ وقت ليس بالقليل دون أن ينتبه إليها أحد. وهي في ذلك الزمن المقتطع تتخيّل المتشرّد زوجها المتوفّى قبل أربعة أعوام. تدعو له وهي تتساءل متى دوري؟ هذه رحلة شاقّة من الانتظار، فالوحدة في زمن العجائز عذاب طويل لا تنتهي إلّا بالموت. تتخيّل الغريب ابنها الّذي علّمها كيف تتّصل به من خلال تقنيّة الفيديو في الهاتف المحمول، وتتساءل: ماذا يفعل الآن؟ هل لي أن أحاكيه؟ وتجيب نفسها: لن أفعل. ربّما هو مشغول مع زوجته أو في عمله، سيهاتفني وقت فراغه، أنا متأكّدة.

يتهيّأ لها الشابّ كحفيدها الّذي تفضّل من بين أحفادها. تتذكّر محادثتها معه قبل أسبوع حين قالت له: نحن ما نزال أحياء، ننتظر الحبّ في المقاهي أو حتّى في المفارق، لأنّنا خلقنا من حبّ. تتخيّل جيرانها الأصدقاء، أصدقاؤها القدامى، الّذين تساقطوا واحدًا تلو الآخر وتتساءل: هل أنا الأوفر حظًّا في مزيد من الأيّام؟ تزيح كرسيّها المتحرّك نحو سريرها، تتفقّد هاتفها، ثمّ تغفو إلى نومها.

شابّ بمعطف أسود ويسير مثقلًا بخطواته. يلتفت بنظرة خاطفة إلى الحديقة. يرى عاملًا، ومتسوّلًا، ومزعجين، ولا ينظر إلى النافذة في الأعلى، ويكمل المسير. تتمتم العجوز: لم ينتبه إلى شيء، يا فتى، هنالك أكثر من حياة حولك، فإنّ الواقف يرى ما لا يراه الماشي، عليك أن تتمهّل قليلًا في طريقك حتّى تنكشف الأسرار. يتجمّد المشهد ثانية واحدة فقط، وتتقاطع الخيوط بين الأشخاص، ثمّ تكمل الحياة مسلسلها كما كانت.

في الصباح الجديد: مقعد فارغ يعيد محادثة قلوب بعيدة، ونافذة مكسورة، وقميص أبيض اللون يرفرف في الهواء ليحطّ بجانب شخص نائم تحت لعبة أطفال، وموسيقى باهتة في الشارع، وستارة لا تتحرّك. يستيقظ الجميع من هؤلاء إلّا واحدًا لم يتجاوز عنه الموت في المكان.

 


 

أحمد جابر

 

 

 

قاصّ وكاتب من فلسطين. حاصل على الماجستير في «هندسة الطرق والمواصلات». حائز على جائزة مؤسّسة «عبد المحسن القطّان للكاتب الشابّ» (2017)، عن مجموعته القصصيّة «السيّد أزرق في السينما».